منى عبدالغني البدري
لم تستسلم (أم علي) لما حل بقريتها الصغيرة من تغير مناخي كبير أدى إلى الجفاف الذي قضى على الحياة فيها، فعزمت على إنشاء مشروع الذهب الأحمر، وهو زراعة مساحات شاسعة من الطماطم بعد استصلاح الأراضي وتحقيق اكتفاء ذاتي في محافظة ذي قار والمحافظات المجاورة فضلا عن توفير مصدر دخل لأكثر من خمسة وعشرين عائلة محيطة بها.
فكرت أم علي  والتي فضلت عدم الكشف عن اسمها الحقيقي والاكتفاء بكنيتها التي عرفت بها في المنطقة بالمصير المجهول الذي ينتظر أسرتها في حال اتخذوا قرار النزوح من جهة، ومصيرهم في حال بقائهم دون ماء ومصدر عيش، لاسيما أن جميع ما يملكون من مال قد نفذ وأن التلاميذ  تركوا الدراسة وتشتت بناتها المتزوجات عنها اللواتي تزوجن في سن مبكرة بسبب العوز جراء الجفاف.
يبلغ عدد سكان محافظة ذي قار حسب آخر احصائية 2،100،000 نسمة فهي من المحافظات التي تتمتع بكثافة سكانية عالية و هي المحافظة الأكثر تأثرا في التغير المناخي في العراق بسبب انخفاض مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات وجفاف مناطق الأهوار.
تعيش أم علي 52 عاما مع أسرتها المكونة من زوجها الذي يعاني من إعاقة نسبية في قدمه اليمنى،  وأبنائها الأربعة ولديها ثلاثة بنات تزوجن من أبناء عمومتهن ويعشن بالقرب من أسرتهن في أم عنيج وهي منطقة تابعة إلى قضاء الجبايش شرقي محافظة ذي قار في الحدود المحاذية لمحافظة البصرة.
عاشت العديد من العائلات في هذه المنطقة قبل الجفاف معظمهم نزح إلى مدن ذي قار والبصرة والمحافظات الوسطى بعد أن أصابهم الظمأ ونفقت ثرواتهم الحيوانية إضافة لتحول أراضيهم الزراعية إلى أراض جرداء لا تصلح للعيش، هذا ما كشفه لنا السيد مقداد الياسري رئيس الجمعيات الفلاحية سابقا في ذي قار.
ذكر السيد هديرس نعيثل غانم البدري رئيس جمعية النداء الفلاحية في منطقة أم عنيج أن 400 عائلة نزحت من أم عنيج التي تقدر مساحة مزارعها  ب15 ألف دونم، ولم تبق إلا 40 عائلة فقط. 
تقول السيدة أم علي، “لا يمكن لي أنا وعائلتي ترك أرضنا والرحيل نحو مستقبل مجهول، لاسيما أننا تعودنا على حياتنا هنا ولا نستطيع التأقلم في المدينة بسهولة لذا لابد أن نصنع شيئا يجعل أرضنا هنا صالحة للعيش وعدم الاستسلام للجفاف ومشكلة شح المياه.”
البقاء وعدم الرحيل
عادت الذاكرة للمرأة الخمسينية قبل أربعة عقود مضت حيث مهنة أجدادها وآبائها في الزراعة وحفر الآبار، لتستوحي فكرتها من تلك الذكريات في استصلاح أراض قاحلة تشبعت بالظمأ واختارت ثمرة الطماطم لتكون بطلة العمل كونها منتوج لا يمكن الاستغناء عنه في كل بيت لاستخدامه في الطبخ والكثير من الأطعمة المنوعة وبعض الصناعات كمعجون الطماطم.
لم تأخذ أم علي فرصتها في التعليم لكن أعوادا من نبات الرمث الذي يتكاثر حول منازلهم الطينية كفيلة بمساعدتها برسم خطة أعدتها في وقت سابع أثناء توسدها حيث النوم، رسمت أم علي في باكورة صباح مشمس في أحد أيام أيلول لعام 2019 حدودا لمساحات صغيرة من أرضهم القاحلة خلسة لتقوم بنثر بضعة بذور من الطماطم بطريقة منظمة تعلمتها منذ أن كانت في العاشرة من عمرها. 
قالت أم علي، “أن بعض من الأقارب والجيران استهان بفكرتي وتنبأ البعض  بفشلها، إلى أن ارتباطي بأرض آبائي وأجدادي وعشقي لذكرياتي إضافة لقناعة زوجي وأبنائي بفكرتي ومؤازرتهم لي زادني إصرارا في التنفيذ، ومن استهان أصبح يعمل معنا.”
“الان فخورة بتوفير مصدر دخل لأكثر من خمسة وعشرين عائلة محيطة بي،” اضافت أم علي.
وكأنها بهذا العمل أعلنت الصمود وعدم ترك أرضها حيث المدينة كبقية مئات العائلات بعد أن ضاقت بهم سبل العيش، وعند استيقاظ أبنائها أعلنت ما قامت به لتطلب منهم  أن يحفروا بئرا بالقرب من المنزل ودون تردد نفذوا عملية الحفر التي استغرقت عدة أيام.
لم يقف عملهم على هذا بل أنهم ساعدوها بزيادة زراعة مساحات أكبر مما خططت له بالطماطم بمساعدة بناتها وأزواجهن حتى أنهم لم يحددوا كم هي المساحة التي تزرع لأن عملهم بدأ بعشوائية بتوجيه من والدتهم.
أم علي بلهجتها السومرية العفوية كنا نسترق منها الكلمات وهي في حذر من آلة التصوير نظرا لطبيعة بيئتها المحافظة، وبتحفيز من زوجها وهو يطمئنها بعد ظهور ملامح الخجل والتوتر على وجهها، لكن طبيعة حوار عفوي بعيد عن التعقيد تحدثنا معها وربما قمنا باستخدام شيء من اللهجة التي كانت تتحدث بها  لتصل معنا للشعور بالأمان.
توقفت قليلا من أجل ابتسامة الانتصار والتحدي لتكمل حديثها بارتياح، “أكثر  من ثلاثون عائلة وفر مشروعي لهم مصدر عيش في مزارع مكشوفة ومحمية بالغطاء البلاستيكي لتصبح منطقتنا أهم المناطق الجنوبية في انتاج محصول الطماطم.”
هناک روح التعاون المتبادلة بين العائلات، فالعائلة التي تعمل بمزرعتها تجد جيرانها من النساء والرجال بل وحتى الأطفال يساعدونها في الحرث أو الحصاد وغيرها من الأعمال، “والحمدلله أصبح عندنا دخل عيش يعيننا على حياتنا اليومية،” اضافت أم علي.
في مطلع عام 2022 ازدادت مخاوف سكان محافظة ذي قار بشكل ملحوظ بسبب استمرار انخفاض مناسيب المياه وجفاف مساحات كبيرة من مناطق الاهوار في أماكن متفرقة أدت للهجرة الى مناطق الفرات الأوسط بحثا عن وفرة المياه حسب المراقب مرتضى الحدود كاتب وصحفي من ذي قار
حيث أثر الجفاف على حياة سكان الاهوار والقرى الذين يعتمدون بشكل أساسي على الزراعة والصيد وتربية الحيوانات فضلا عن انتشار الأمراض السرطانية والمعوية والجلدية بين السكان المحليين لاستخدامهم المياه الاسنة.
استمرار توافد المستهلكين لاقتناء الطماطم
أحد أصحاب الشاحنات الذي كان منهمكا بتوجيه العمال بحمل صناديق الطماطة وترتيبها في أعلى الشاحنة وبحساب عددها وذكرها في ورقة صغيرة وقلم يضعه بين الحين والاخر خلف أذنه، وتحدث عن جودة الطماطم التي ينتجها فريق أم عنيج.
قال الرجل صاحب الشاحنة، أبو عبدالله، “أن طماطم أم عنيج تعتبر أجود أنواع الطماطم في العالم ولها مذاق خاص ومميز لا ينافسه أي نوع من الطماطم المستوردة أو حتى المحلية.”
وأردف قائلا أن بعض المزارعين أخذوا عينة بذور من هذه المزارع و جربوا أن يزرعوها في أماكن أخرى أكثر وفرة بالمياه لكنها لم تنتج نفس طماطم أم عنيج.”
أن بعض الدول المجاورة تطلب تحديدا من الطماطم أم عنيج مميزة بمذاقها  الخاص الذي لا ينافسه أي نوع من الطماطم المستوردة أو حتى المحلية.
يقول باسم مطر أحد باعة الخضار في أسواق الناصرية، “أن طماطم أم عنيج لها مذاق خاص ولون أحمر لامع وأكثر نضجا ما يجعل أغلب الزبائن يقصدون متجري، بل أن زوجتي في البيت دائما تقول لي لا تحضر لي غير طماطم أم عنيج.”
فيما قال حسين نعمة رئيس الجمعيات الفلاحية في ذي قار، “أن تجربة طماطم أم عنيج أثبتت أن هذه البقعة من الأرض خصبة للغاية والطماطم هنا لها مذاق خاص جدا، وأهم دليل على ذلك زيادة الطلب على هذا النواع من الطماطم بشكل خاص، ويعتقد أن المياه الجوفية العذبة مع طبيعة الأرض هنا السبب الأول في تميز ثمرة الطماطم في هذه المنطقة كاشفا أن بذور طماطم أم عنيج من النوع الممتاز وهي بذور فرنسية المنشأ.”
حيث يقول السيد هديرس، “بالرغم من كل التحديات وفر مشروع الذهب الأحمر دخلا جيدا للعائلات ، ما جعلهم يستبعدون فكرة الرحيل عن ديارهم وهذا نجاح ذاتي كبير لأم علي ومن معها.”
من جانب اخر، تم إعادة الحياة لمزارع أم عنيج وتوفير المياه بها؛ أم علي ذكرت، “أننا استطعنا بفترة وجيزة أن نعيد الحياة لأرضنا بعد أن عانت من الجفاف الذي قضى على كل مظاهر العيش هنا، لكن المياه الجوفية أنقذت الموقف وحققنا نجاح كبير بحفر الآبار واستعادة المساحات الخضراء والاعتماد على ثمرة الطماطم في المشروع.”
يتوافد  المستهلكون لأم عنيج  لاقتناء الطماطم بالرغم من وجود الطماطم المستوردة التي تملأ الأسواق وكأنهم في سباق للحصول على أكبر كمية منها.
أبو عبدالله يقول، “لا أتخيل أن أملأ متجري بطماطم مستوردة لأن جميع زبائني يفضلون الطماطم التي أقوم بشرائها من هنا، وأنا نفسي لا أستطيع تفسير هذا المذاق الحلو الذي تتميز به طماطم أم عنيج.”
المشاکل من بینها النظرة الدونية للمرأة
على الرغم من نجاح الفكرة والتي لاقت إعجاب كل من عمل واستفاد منها وبشهادة المختصين كما ذكرنا سابقا، إلا أنه مهما بلغت النجاحات فلابد من وجود تحديات تواجه أي مشروع، بعض المشكلات التي واجهت أم علي هي الحياة القبلية التي لازالت تسيطر أفكارها على المجتمع في منطقة أم عنيج كمنطقة جنوبية في العراق والنظرة الدونية للمرأة مهما تقدم من انجاز.
في حديث مع زوج أم علي أوضح لنا قائلا، “الكثير من المزارعين والتجار  هنا يجدون أن التعامل مع امراة يشكل حرجا عليهم وهو أمر معيب عند البعض، وهذا يدفع البعض لرفضهم التعامل مع زوجتي صاحبة المشروع والتعامل معي وأنا كما ترون عاجز وأعاني من ألم في قدمي يمنعني من العمل والوقوف طويلا.”
تحد آخر يعيشه السكان المحليون هنا وهو غياب الخدمات بشكل كامل وعدم دعم الحكومة لهكذا مشاريع منتجة.
يقول هديرس نعيثل غانم البدري رئيس جمعية النداء الفلاحية في أم عنيج. “إن  سوء الخدمات في منطقتنا يعتبر عائق كبير للمزارعين مثل عدم توفر الكهرباء وعدم وجود مدارس ثانوية و خدمات طبية وغياب الدعم الحكومي من الغطاء البلاستيكي والأسمدة وغيرها من المستلزمات الأمر الذي أدى الى نزوح عدد من العائلات في مطلع 2023 لتبقى الآن 40 عائلة مترابطة فيما بينها وصامدة بالعمل موزعة على 30 مزرعة منتجة تسقى من خمسة وعشرين بئرا جاريا حتى هذه اللحظة.”
وأردف هديرس قائلا، “أن في عام 2019 تم زراعة خمسة عشر دونما وخلال عام واحد زرعت خمسة وعشرين دونما فأصبحت لدينا بعد ذلك 400 مزرعة و320 بئرا، هذه المزارع  تنتج أطناناً من الطماطم غطت محافظة ذي قار والمحافظات المجاورة.”
في حین يواجه المزارعون مشكلة سوء الإدارة الاقتصادية في البلاد وهي جعل المستورد منتج أساسي في الاسواق وعدم الاعتماد على المنتج المحلي بشكل رئيسي
أبو ناصر أحد العاملين  قال لنا، “نحن نعاني من انتشار الخضار المستوردة بشكل كبير في البلاد من ضمنها الطماطم ولا يوجد تقنين لدخولها في الاسواق ما يتسبب بانخفاض أسعار الطماطم بشكل كبير، لأن الطماطم سريعة التلف يضطر الفلاح هنا إلى بيع صندوق الطماطم الذي يصل أحيانا لعشرة كيلو بثمن بخس لا يسد الرمق بألفين ونص دينار عراقي أو ثلاثة آلاف.”
وهذا الحال يشكل قلقا كبيرا لدی المزارعين ومن المشاكل الأخرى هي شحة الأسمدة حيث أن الدولة لا تدعمهم إلا بسماد اليوريا وبكمية قليلة جدا أما بقية الأسمدة فنحصل عليها من السوق السوداء ما يعرض الفلاح  للاستغلال من قبل تجار الأسمدة.
 ونحن نودع أرض أم عنيج بابتسامات الترحيب من مزارعيها، وقفت أم علي امام نافذة السيارة  وقالت، “لايمكن أن نقف مكتوفي الأيدي أمام التغيرات المناخية وعجز البلاد على مواجهتها، فعلى الجميع تقديم كل ما يملك من أفكار وقدرات وتوظيف الامكانيات الموجودة لخلق بيئة صالحة للعيش.”
 
تم انتاج هذا التقرير ضمن إطار مشروع أصواتنا المنفذ من قبل منظمة انترنيوز