اسماء الشعلان

في الطريق المؤدي إلى القرى المتناثرة على أطراف الناصرية، لا يسمع الزائر سوى صفير الريح وهي تصطدم بالشبابيك المعدنية المهجورة، كأنها تعزف نشيدا حزينا على خرائب المكان، غبار الأرض يمتزج برائحة الطين القديم، فيما تبرز بين التلال الترابية هياكل بيوت طينية، تبدو كأجساد أنهكها الزمن فنامت ولم تنهض بعد فيما كان هذا الطريق قبل سنوات يعانق ظلال النخيل الخضراء، وتتناثر على جانبيه موسيقى الجداول الصغيرة وهي تنحدر بخفة، فيرسم الماء حياة لا تنطفئ أمّا اليوم، فالمشهد ساكن حدّ الوجع كأنه توقف فجأة عند لحظة لم يواصل الزمن بعدها سيره.

وحين تمضي في طرقات القرى جنوبا وشمالا، تشعر أنك تعبر زمنين متناقضين زمن كانت فيه الأرض تكتسي خضرتها، والأنهار تهدهد القرى بنشيد الماء وزمن آخر يطاردك فيه صمت الصحراء وخطوات الجفاف هنا، تتوارى البيوت بيتاً بعد آخر تقلّ العائلات، وترحل الطيور قبل أن يفكر البشر في الرحيل.

قرية بلا حياة
ففي قضاء الدواية وقضاء النصراقصى شمال ذي قار اذ تقف قرى كاملة على حافة الاندثار في قرية الخيري تتكدس آثار الهجرة والجفاف على بيوت طينية لم تعد تذكر سوى أصوات من رحلوا.
عند مدخل القرية، يقف أبو علي50 عاما، أحد وجهاء المنطقة ومختارها، أمام منزل تحول إلى علامة فارغة على غياب الدولة يقول “القرية صارت خاوية الماء اختفى، والناس ما عاد تملك خيار غير الهجرة القرية سابقا كانت اكثر من 2000 بيت لم يتبقى سوى عشرات البيوتات “.
منذ أكثر من عشر سنوات يطالب الأهالي بحلول لكن الوعود بقيت معلقة بين سياسات دول الجوار، وغياب خطط الدولة.
أزمة مياه وسياسات عالقة
فقد غيرت إيران مسار روافد عدة، فيما تشدد تركيا القيود على مياه دجلة والفرات، تاركة العراق في مواجهة أزمة مائية خانقة لا يملك أدواتها. وبين التجاذبات الإقليمية، تركت القرى لمصيرها.
هجرة جماعية بلا بديل
يقول حسين الفاضل (60 عاما)، وهو من سكان القرية سابقاً “قرى كاملة انتهت شمال الناصرية وجنوبها… ما بقت بيها أكثر من 30 بيت”.
ويضيف “ماكو تعويض، ولا توزيع أراض… أراضينا ورثناها أجيال، بس الدولة ما ساعدتنا بأي شيء”.
مدرسة بلا طلاب… وقرية بلا شباب
أما علي غانم (50 عاما) فيصف المشهد “تقريباً كل الناس هاجرت ما بقى غير 20 بيت ماكو زراعة، ماكو حلال… شلون يعيشون؟”
ويشير إلى مدرسة القرية “المدرسة صارت شبه فارغة… الطلاب قلوا للنصف”.
عشرات الشباب يغادرون قريتهم فجراً متجهين إلى المدينة للعمل بحثاً عن رزق يومي.
الأستاذ سعد جبار (42 عاماً) يشرح وضع التعليم المدارس متهالك وكرفانية لاتصلح للتعليم ولا تتوفر فيها أي السبل المناسبة للتعليم, حيدر السعدي مسؤول لجنة التصحر يقول اكثر من 15000 طالب متسرب من المدارس بسبب الجفاف والنزاعات العشائرية.
“حتى بئر المدرسة مياهه مالحة… الطلاب يعانون، والمعلم يعاني”.
ماء مالح… وكهرباء غائبة
يقول علي حمود (40 عاما) “حتى ماي الآبار مالح الكهرباء تعبانة بالصيف مايشتغل التبريد ضعيفه وبالشتاء تنطفي ويصير طبك … وتانكي الماي صارت مشكلة لان نجيبه من المدينة والى متى تبقى هاي القرى وسكانها يعانون”.
ويضيف بحسرة “هاي مناطق كانت مليانة حياة… اليوم إذا تريد كوب ماي نظيف ما تلكاه”.
خسائر هائلة في الثروة الحيوانية والسمكية
يكشف حيدر السعدي، مسؤول ملف التصحر في المحافظة “فقدنا 85% من الثروة السمكية، وأكثر من 14 ألف رأس جاموس، و88% من الأراضي الرطبة صارت صحراء”.
ويحذر من أن الفراغ في القرى قد يسمح بنشاطات جرمية أو متطرفة في المناطق الخالية.

الحياة المستحيلة شهادات من قرى أخرى
يقول جاسم العبودي، احد وجهاء القرية “قبل 2003 كانت القرى عامرة… اليوم بقت 22 عائلة فقط”.
أما شاكر عبدالكريم (70 عاما) “أراضينا كانت مليانة نخل… هسه حتى البئر مالح. يجينه مي يوم واحد بالسنة”
ويقول أبو حيدر (50 عاما) “الهجرة وصلت للـ80%… إذا واحد يروح، تتبعه باقي العوائل”.
ويختتم رزاق العلي، معاون المحافظ لشؤون التخطيط “شحة الماي زادت التصحر… ولازم نلجأ للآبار والمصادر البديلة، لكن التنفيذ بطيء”.
مشهد قرى ذي قار اليوم ليس أزمة عابرة بل إنذار مبكر لانهيار الأمن المائي في العراق.
جفاف الأنهار، تراجع الزراعة، انهيار المدارس، نزوح العائلات، موت الثروة الحيوانية… كلها حلقات في سلسلة واحدة تنذر بزوال مجتمعات كاملة.
هذه الأرض التي كانت يوما خزان خير، تقف اليوم على حافة النهاية، تنتظر فقط قطرة حياة تعيد إليها ما فقدته.

هذا التحقيق ضمن مشروع “تمكين النساء للتكيف مع تغير المناخ في ذي قار” يتم تنفيذه من قبل منظمة تمكين المرأة بالشراكة مع منظمة تيرفند.

📲
تابع قناة أخبار الناصرية على تلغرام
تصلك الأخبار العاجلة والمواد الحصرية مباشرة على هاتفك.