وكالات :

في خطوة قد تعيد تعريف أسس البنية التحتية الرقمية العالمية، كشف باحثون من جامعة ساوثهامبتون وشركة مايكروسوفت عن تطوير نوع جديد من الألياف الضؤئية ذات النواة المجوفة (HCF)، يحمل إمكانات ثورية لتسريع الإنترنت، وخفض تكاليف البنية التحتية، وزيادة كفاءة الشبكات العالمية.

إذ تعتمد الثورة الرقمية التي نعيشها اليوم كليًا على تقنية الألياف الضوئية، ومع ذلك جوهر هذه التقنية لم يتغير بنحو كبير منذ عقود، فقد ظلت هذه التقنية تواجه على مدى العقود الأربعة الماضية تحديات تتعلق بحدود المسافة وفقدان الإشارة، ولكن اليوم، يقدم هذا التصميم الثوري حلًا جذريًا لهذه التحديات، ممهدًا الطريق لشبكة إنترنت أسرع وأقوى، وأنظمة اتصالات قادرة على مواكبة متطلبات المستقبل، بما يشمل الحوسبة الكمّية.

تصميم فريد للألياف الضوئية يتجاوز الحدود:

لقد وصلت الألياف الضوئية المصنوعة من السيليكا – وهي الألياف التي تنقل الضوء عبر قلب زجاجي – إلى حدودها القصوى من حيث الأداء، إذ أصبح مجال تحسين فقدان طاقة الإشارة فيها محدودًا للغاية.

وهنا برزت فكرة الألياف الضوئية ذات النواة المجوفة (HCF) كبديل واعد، فمن الناحية النظرية، تتميز هذه الألياف بكونها مجوفة من الداخل، مما يسمح للضوء بالانتقال عبر الهواء، وهو ما يتيح سرعات إرسال أعلى بكثير من تلك التي توفرها الألياف المصنوعة من السيليكا، ومع ذلك، وعلى مدى عقود، ظل تحقيق هذه النظرية في الواقع تحديًا كبيرًا؛ فمعظم التصميمات كانت تعاني معدل فقدان في الإشارة أسوأ من الألياف التقليدية أو كانت غير عملية.

لكن يبدو أن هذا الواقع قد تغير أخيرًا. ففي خطوة رائدة، كشف باحثون من جامعة ساوثهامبتون ومايكروسوفت عن تحقيق إنجاز كبير في هذا المجال، ونشروا نتائجهم في مجلة (Nature Photonics) العلمية، فقد تمكنوا من تصميم ألياف مجوفة جديدة حققت رقمًا قياسيًا غير مسبوق في انخفاض معدل الفقد في الإشارة، إذ وصل إلى 0.091 ديسيبل/كم، متفوقًا بذلك على أدنى حد ممكن للفقد في ألياف السيليكا الذي بلغ 0.14 ديسيبل/كم.

ولم يقتصر الإنجاز على ذلك فحسب، بل حافظ التصميم الجديد أيضًا على مستويات فقدان منخفضة تبلغ نحو 0.2 ديسيبل/كم عبر نطاق ترددي ضخم يبلغ 66 تيراهرتز، مما يضمن كفاءة عالية عبر مجموعة واسعة من التطبيقات.

وعلاوة على ذلك؛ يوفر هذا التصميم الجديد سرعات إرسال أسرع بنسبة تبلغ 45% مقارنة بالألياف الحالية، مما يبشر بثورة حقيقية في سرعة نقل البيانات وكفاءتها على مستوى العالم.

ويكمن سر هذا الابتكار في تصميمه الهندسي الدقيق، فبدلًا من الاعتماد على السلك الزجاجي المصمت، الذي لا يتجاوز سُمكه سُمك الشعرة في الألياف التقليدية، يعتمد هذا الابتكار على نظام فريد من القصبات الزجاجية المجوفة.

ويتكون هذا النظام المعقد من خمس أسطوانات صغيرة، تحتوي كل واحدة منها على أسطوانتين متداخلتين، وتتصل جميعها بالحافة الداخلية لأسطوانة رئيسية واحدة، وقد ضُبط قطر كل أنبوب بدقة متناهية، بحيث لا يسمح الفراغ إلا بمرور الضوء ذي الأطوال الموجية المحددة.

وبفضل هذا التصميم الهندسي المبتكر، عندما تُرسَل نبضة ضوئية ذات طول موجي مناسب عبر الفجوة المركزية المجوفة، فإنها تبقى محصورة داخلها، مما يمنع تسربها وفقدان طاقتها.

وقد دفع هذا الإنجاز فرانشيسكو بوليتي، الباحث المُشارك في الدراسة، والباحث في مجال الفوتونات وعلوم المواد في جامعة ساوثهامبتون، المملكة المتحدة، إلى تأكيد أن هذا الابتكار قد يُحدث نقلة نوعية في عالم الاتصالات.

كما علّق (رود فان ميتر)، مهندس الشبكات الكمّية في جامعة كيو في طوكيو، على هذا الإنجاز قائلًا: “إذا أمكن تصنيع الألياف الجديدة وتركيبها بسهولة، وثبتت متانتها، فقد تكون النتيجة شبكة إنترنت تقليدية أسرع وأفضل”. مما يوضح أن الأثر المحتمل لهذا الابتكار يتجاوز حدود المختبرات، ليشمل تحسين شبكات الإنترنت العالمية بطريقة جذرية.

مزايا جديدة وأداء غير مسبوق:

يقدم هذا التصميم الجديد مجموعة من المزايا التي تجعله يتفوق بقوة على الألياف الحالية، ويشمل ذلك:

1- تقليل فقدان الإشارة:

تفقد الألياف التقليدية نصف قوة الإشارة الضوئية كل 15 إلى 20 كيلومترًا، مما يستلزم بناء محطات تقوية وإعادة إرسال مكلفة على مسافات متقاربة، أما الألياف الضوئية المجوفة الجديدة، فتتفوق على هذا المعدل بأكثر من الضعف، إذ لا تفقد نصف الإشارة إلا كل 33 كيلومترًا.

وقد أكد فرانشيسكو بوليتا، أن هذا سيمثل توفيرًا كبيرًا جدًا في التكاليف، إذ سيسمح للمشغلين بتقليل عدد محطات التقوية بنحو كبير.

2- سرعة فائقة وسعة ضخمة:

ينتقل الضوء في الهواء أسرع بنسبة تبلغ 45% من انتقاله في الزجاج المصمت، وتمنح هذه الميزة الفيزيائية الألياف المجوفة أفضلية كبيرة في سرعة نقل البيانات، وهو ما وصفه المهندس  (رود فان ميتر) بأنه تغيير جذري سيدفع الناس مقابله أموالاً طائلة، خاصة في التطبيقات الحساسة للزمن مثل مراكز البيانات والأسواق المالية.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه الألياف نقل طاقة تزيد بأكثر من 1000 مرة مقارنة بالألياف التقليدية، مما يفتح الباب أمام تطبيقات جديدة عالية القوة.

3- دعم تقنيات المستقبل الكمّية:

على عكس الألياف الشائعة التي تقتصر كفاءتها على نطاق الأشعة تحت الحمراء، تدعم الألياف الضوئية المجوفة الجديدة طيفًا واسعًا من الأطوال الموجية، بما يشمل نبضات الفوتون الواحد من ضوء الطيف المرئي، التي تُعدّ أساسية في أنظمة الاتصالات الكمّية.

وتؤكد تريسي نورثاب، الفيزيائية التجريبية في جامعة إنسبروك في النمسا، أهمية هذا الاكتشاف لمجتمع الاتصالات الكمّية قائلة: “هذه النتيجة مثيرة جدًا للاهتمام لمجتمع الاتصالات الكمّية، لأنها تتيح إمكانية بناء شبكات كمّية أكثر كفاءة واستقرارًا”.

من المختبر إلى السوق العالمية:

لتحويل هذا الإنجاز العلمي إلى واقع ملموس، ستتولى شركة (Lumenisity) عملية إنتاج هذه الألياف الثورية، وهي شركة منبثقة عن جامعة ساوثهامبتون وقد استحوذت عليها مايكروسوفت في عام 2022، مما يؤكد ثقة عمالقة التكنولوجيا بإمكانيات هذه التقنية الواعدة.

وتختلف عملية إنتاج الألياف الضوئية المجوفة بنحو جذري عن الطرق التقليدية، ففي حين تعتمد صناعة الألياف الضوئية التقليدية على صهر كتلة من الزجاج ثم شدّها لتشكيل خيط بالسماكة المطلوبة، تتطلب الألياف الضوئية المجوفة التي تطورها شركة (Lumenisity) أسلوبًا أكثر تعقيدًا ودقة.

وسيبدأ فريق شركة (Lumenisity) بنموذج أولي أكبر بكثير من التصميم النهائي، يصل قطره إلى نحو 20 سم، وخلال عملية السحب والشد، ستُضغط التجاويف الداخلية بدقة متناهية، مما يحافظ على التكوين الهندسي المعقد للألياف دون أي تغيير.

وستكون النتيجة عبارة عن هيكل دقيق للغاية، يبلغ عرضه نحو 100 ميكرومتر فقط، قادر على تحقيق أداء غير مسبوق في نقل البيانات. وهذا المزيج من الابتكار الهندسي والدقة التصنيعية هو ما سيسمح لهذه الألياف بالانتقال من مجرد فكرة بحثية إلى مكون أساسي في شبكات اتصالات المستقبل.

الخاتمة:

يمثل تطوير الألياف الضوئية المجوفة أكثر من مجرد تحسين تدريجي؛ إنه تحول نموذجي قد يُحدث ثورة في قطاع الاتصالات العالمي. فمن خلال قدرتها على نقل كميات ضخمة من البيانات بسرعات عالية جدًا لمسافات أطول مع فقدان أقل للإشارة، تبشر هذه التقنية بإنترنت أسرع وأكثر كفاءة، وبنية تحتية رقمية قادرة على دعم الجيل القادم من التقنيات، ابتداءً من الذكاء الاصطناعي المتقدم ووصولًا إلى شبكات الاتصال الكمّية الآمنة. ومع بدء  شركة (Lumenisity) بالإنتاج التجاري، قد يكون العالم على أعتاب حقبة جديدة من الاتصال الفائق.

المصدر: البوابة التقنية

📲
تابع قناة أخبار الناصرية على تلغرام
تصلك الأخبار العاجلة والمواد الحصرية مباشرة على هاتفك.